سورة محمد - تفسير تفسير الرازي

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (محمد)


        


{الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ (1)}
أول هذه السورة مناسب لآخر السورة المتقدمة، فإن آخرها قوله تعالى: {فَهَلْ يُهْلَكُ إِلاَّ القوم الفاسقون} [الأحقاف: 35] فإن قال قائل كيف يهلك الفاسق وله أعمال صالحة كإطعام الطعام وصلة الأرحام وغير ذلك؟ مما لا يخلو عنه الإنسان في طول عمره فيكون في إهلاكه إهدار عمله وقد قال تعالى: {فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ} [الزلزله: 7] وقال تعالى: {الذين كَفَرُواْ وَصَدُّواْ عَن سَبِيلِ الله أَضَلَّ أعمالهم} أي لم يبق لهم عمل ولم يوجد فلم يمتنع الإهلاك، وسنبين كيف إبطال الأعمال مع تحقيق القول فيه، وتعالى الله عن الظلم، وفي التفسير مسائل:
المسألة الأولى: من المراد بقوله: {الذين كَفَرُواْ}؟ قلنا فيه وجوه:
الأول: هم الذين كانوا يطعمون الجيش يوم بدر منهم أبو جهل والحرث ابنا هشام وعتبة وشيبة ابنا ربيعة وغيرهم الثاني: كفار قريش الثالث: أهل الكتاب الرابع: هو عام يدخل فيه كل كافر.
المسألة الثانية: في الصد وجهان:
أحدهما: صدوا أنفسهم معناه أنهم صدوا أنفسهم عن السبيل ومنعوا عقولهم من اتباع الدليل وثانيهما: صدوا غيرهم ومنعوهم كما قال تعالى عن المستضعفين {يَقُولُ الذين استضعفوا لِلَّذِينَ استكبروا لَوْلاَ أَنتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ} [سبأ: 31] وعلى هذا بحث: وهو أن إضلال الأعمال مرتب على الكفر والصد، والمستضعفون لم يصدوا فلا يضل أعمالهم، فنقول التخصيص بالذكر لا يدل على نفي ما عداه، ولا سيما إذا كان المذكور أولى بالذكر من غيره وهاهنا الكافر الصاد أدخل في الفساد فصار هو أولى بالذكر أو نقول كل من كفر صار صاداً لغيره، أما المستكبر فظاهر، وأما المستضعف فلأنه بمتابعته أثبت للمستكبر ما يمنعه من اتباع الرسول فإنه بعد ما يكون متبوعاً يشق عليه بأن يصير تابعاً، ولأن كل من كفر صار صاداً لمن بعده لأن عادة الكفار اتباع المتقدم كما قال عنهم {إِنَّا وَجَدْنَا ءابَاءنَا على أُمَّةٍ وَإِنَّا على آثارهم مُهْتَدُونَ} [الزخرف: 22] أو مقتدون، فإن قيل فعلى هذا كل كافر صاد فما الفائدة في ذكر الصد بعد الكفر نقول هو من باب ذكر السبب وعطف المسبب عليه تقول أكلت كثيراً وشبعت، والكفر على هذا سبب الصد، ثم إذا قلنا بأن المراد منه أنهم صدوا أنفسهم ففيه إشارة إلى أن ما في الأنفس من الفطرة كان داعياً إلى الإيمان، والامتناع لمانع وهو الصد لنفسه.
المسألة الثالثة: في المصدود عنه وجوه:
الأول: عن الإنفاق على محمد عليه السلام وأصحابه الثاني: عن الجهاد الثالث: عن الإيمان الرابع: عن كل ما فيه طاعة الله تعالى وهو اتباع محمد عليه السلام، وذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم على الصراط المستقيم هاد إليه، وهو صراط الله قال تعالى: {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إلى صراط مُّسْتَقِيمٍ * صراط الله} [الشورى: 52، 53] فمن منع من اتباع محمد عليه السلام فقد صد عن سبيل الله.
المسألة الرابعة: في الإضلال وجوه:
الأول: المراد منه الإبطال، ووجهه هو أن المراد أنه أضله بحيث لا يجده، فالطالب إنما يطلبه في الوجود، وما لا يوجد في الوجود فهو معدوم.
فإن قيل كيف يبطل الله حسنة أوجدها؟ نقول إن الابطال على وجوه:
أحدها: يوازن بسيئاتهم الحسنات التي صدرت منهم ويسقطها بالموازنة ويبقي لهم سيئات محضة، لأن الكفر يزيد على غير الإيمان من الحسنات والإيمان يترجح على غير الكفر من السيئات.
وثانيها: أبطلها لفقد شرط ثبوتها وإثباتها وهو الإيمان لأنه شرط قبول العمل قال تعالى: {مَنْ عَمِلَ صالحا مّن ذَكَرٍ أَوْ أنثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ} [غافر: 40] وإذا لم يقبل الله العمل لا يكون له وجود لأن العمل لا بقاء له في نفسه بل هو يعدم عقيب ما يوجد في الحقيقة غير أن الله تعالى يكتب عنده بفضله أن فلاناً عمل صالحاً وعندي جزاؤه فيبقى حكماً، وهذا البقاء حكماً خير من البقاء الذي للأجسام التي هي محل الأعمال حقيقة، فإن الأجسام وإن بقيت غير أن مآلها إلى الفناء والعمل الصالح من الباقيات عند الله أبداً، وإذا ثبت هذا تبين أن الله بالقبول متفضل، وقد أخبر أني لا أقبل إلا من مؤمن فمن عمل وتعب من غير سبق الإيمان فهو المضيع تعبه لا الله تعالى.
وثالثها: لم يعمل الكافر عمله لوجه الله تعالى فلم يأت بخير فلا يرد علينا قوله: {فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ} [الزلزلة: 7] وبيانه هو أن العمل لا يتميز إلا بمن له العمل لا بالعامل ولا بنفس العمل، وذلك لأن من قام ليقتل شخصاً ولم يتفق قتله، ثم قال ليكرمه ولم يتفق الإكرام ولا القتل، وأخبر عن نفسه أنه قام في اليوم الفلاني لقتله وفي اليوم الآخر لإكرامه يتميز القيامان لا بالنظر إلى القيام فإنه واحد ولا بالنظر إلى القائم فإنه حقيقة واحدة، وإنما يتميز بما كان لأجله القيام، وكذلك من قام وقصد بقيامه إكرام الملك وقام وقصد بقيامه إكرام بعض العوام يتميز أحدهما عن الآخر بمنزلة العمل لكن نسبة الله الكريم إلى الأصنام فوق نسبة الملوك إلى العوام فالعمل للأصنام ليس بخير ثم إن اتفق أن يقصد واحد بعمله وجه الله تعالى ومع ذلك يعبد الأوثان لا يكون عمله خيراً، لأن مثل ما أتى به لوجه الله أتى به للصنم المنحوت فلا تعظيم الوجه الثاني: الإضلال هو جعله مستهلكاً وحقيقته هو أنه إذا كفر وأتى للأحجار والأخشاب بالركوع والسجود فلم يبق لنفسه حرمة وفعله لا يبقى معتبراً بسبب كفره، وهذا كمن يخدم عند الحارس والسايس إذا قام فالسلطان لا يعمل قيامه تعظيماً لخسته كذلك الكافر، وأما المؤمن فبقدر ما يتكبر على غير الله يظهر تعظيمه لله، كالملك الذي لا ينقاد لأحد إذا انقاد في وقت لملك من الملوك يتبين به عظمته الوجه الثالث: {أضله} أي أهمله وتركه، كما يقال أضل بعيره إذا تركه مسيباً فضاع.
ثم إن الله تعالى لما بيّن حال الكفار بيّن حال المؤمنين فقال:


{وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَآَمَنُوا بِمَا نُزِّلَ عَلَى مُحَمَّدٍ وَهُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ (2)}
فيه مسائل:
المسألة الأولى: قد ذكرنا مراراً أن الله تعالى كلما ذكر الإيمان والعمل الصالح، رتب عليهما المغفرة والأجر كما قال: {إِنَّ الذين ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات لَهُمْ مَّغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} [الحج: 50] وقال: {والذين ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات لَنُكَفّرَنَّ عَنْهُمْ سَيّئَاتِهِمْ وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ} [العنكبوت: 7] وقلنا بأن المغفرة ثواب الإيمان والأجر على العمل الصالح واستوفينا البحث فيه في سورة العنكبوت فنقول هاهنا جزاء ذلك قوله: {كَفَّرَ عَنْهُمْ سيئاتهم} إشارة إلى ما يثيب على الإيمان، وقوله: {وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ} إشارة إلى ما يثيب على العمل الصالح.
المسألة الثانية: قالت المعتزلة تكفير السيئات مرتب على الإيمان والعمل الصالح فمن آمن ولم يفعل الصالحات يبقى في العذاب خالداً، فنقول لو كان كما ذكرتم لكان الإضلال مرتباً على الكفر والضد، فمن يكفر لا ينبغي أن تضل أعماله، أو نقول قد ذكرنا أن الله رتب أمرين على أمرين فمن آمن كفر سيئاته ومن عمل صالحاً أصلح باله أو نقول أي مؤمن يتصور أنه غير آت بالصالحات بحيث لا يصدر عنه صلاة ولا صيام ولا صدقة ولا إطعام، وعلى هذا فقوله: {وَعَمِلُواْ} عطف المسبب على السبب، كما قلنا في قول القائل أكلت كثيراً وشبعت.
المسألة الثالثة: قوله: {وآمنوا بما نُزِّلَ على محمد} مع أن قوله آمنوا وعملوا الصالحات أفاد هذا المعنى فما الحكمة فيه وكيف وجهه؟ فنقول: أما وجهه فبيانه من وجوه:
الأول: قوله: {والذين ءَامَنُواْ} أي بالله ورسوله واليوم الآخر، وقوله: {وآمنوا بما نزل} أي بجميع الأشياء الواردة في كلام الله ورسوله تعميم بعد أمور خاصة وهو حسن، تقول خلق الله السموات والأرض وكل شيء إما على معنى وكل شيء غير ما ذكرنا وإما على العموم بعد ذكر الخصوص الثاني: أن يكون المعنى آمنوا وآمنوا من قبل بما نزل على محمد وهو الحق المعجز الفارق بين الكاذب والصادق يعني آمنوا أولاً بالمعجز وأيقنوا بأن القرآن لا يأتي به غير الله، فآمنوا وعملوا الصالحات والواو للجمع المطلق، ويجوز أن يكون المتأخر ذكراً متقدماً وقوعاً، وهذا كقول القائل آمن به، وكان الإيمان به واجباً، أو يكون بياناً لإيمانهم كأنهم {وآمنوا بما نُزِّلَ على محمد} أي آمنوا وآمنوا بالحق كما يقول القائل خرجت وخرجت مصيباً أي وكان خروجي جيداً حيث نجوت من كذا وربحت كذا فكذلك لما قال آمنوا بين أن إيمانهم كان أمر الله وأنزل الله لا بما كان باطلاً من عند غير الله الثالث: ما قاله أهل المعرفة، وهو أن العلم العمل والعمل العلم، فالعلم يحصل ليعمل به لما جاء: إذا عمل العالم العمل الصالح علم ما لم يكن يعلم، فيعلم الإنسان مثلاً قدرة الله بالدليل وعلمه وأمره فيحمله الأمر على الفعل ويحثه عليه علمه فعلمه بحاله وقدرته على ثوابه وعقابه، فإذا أتى بالعمل الصالح علم من أنواع مقدورات الله ومعلومات الله تعالى ما لم يعلمه أحد إلا باطلاع الله عليه وبكشفه ذلك له فيؤمن، وهذا هو المعنى في قوله: {هُوَ الذي أَنزَلَ السكينة فِي قُلُوبِ المؤمنين لِيَزْدَادُواْ إيمانا مَّعَ إيمانهم} [الفتح: 4] فإذا آمن المكلف بمحمد بالبرهان وبالمعجزة وعمل صالحاً حمله علمه على أن يؤمن بكل ما قاله محمد ولم يجد في نفسه شكاً، وللمؤمن في المرتبة الأولى أحوال وفي المرتبة الأخيرة أحوال، أما في الإيمان بالله ففي الأول يجعل الله معبوداً، وقد يقصد غيره في حوائجه فيطلب الرزق من زيد وعمر ويجعل أمراً سبباً لأمر، وفي الأخيرة يجعل الله مقصوداً ولا يقصد غيره، ولا يرى إلا منه سره وجهره، فلا ينيب إلى شيء في شيء فهذا هو الإيمان الآخر بالله وذلك الإيمان الأول.
وأما ما في النبي صلى الله عليه وسلم فيقول أولاً هو صادق فيما ينطق، ويقول آخر لا نطق له إلا بالله، ولا كلام يسمع منه إلا وهو من الله، فهو في الأول يقول بالصدق ووقوعه منه، وفي الثاني يقول بعدم إمكان الكذب منه لأن حاكي كلام الغير لا ينسب إليه الكذب ولا يمكن إلا في نفس الحكاية، وقد علم هو أنه حاك عنه كما قاله، وأما في المرتبة الأولى فيجعل الحشر مستقبلاً والحياة العاجلة حالاً وفي المرتبة الأخيرة يجعل الحشر حالاً والحياة الدنيا ماضياً، فيقسم حياة نفسه في كل لحظة، ويجعل الدنيا كلها عدماً لا يلتفت إليها ولا يقبل عليها.
المسألة الرابعة: قوله: {وآمَنوا بما نُزِّلَ على محمد} هو في مقابلة قوله في حق الكافر {وَصُدُّواْ} [محمد: 1] لأنا بينا في وجه أن المراد بهم صدوا عن اتباع محمد صلى الله عليه وسلم، وهذا حث على اتباع محمد صلى الله عليه وسلم، فهم صدوا أنفسهم عن سبيل الله، وهو محمد عليه السلام وما أنزل عليه، وهؤلاء حثوا أنفسهم على اتباع سبيله، لا جرم حصل لهؤلاء ضد ما حصل لأولئك، فأضل الله حسنات أولئك وستر على سيئات هؤلاء.
المسألة الخامسة: قوله تعالى: {وَهُوَ الحق مِن رَّبّهِمْ} هل يمكن أن يكون من ربهم وصفاً فارقاً، كما يقال رأيت رجلاً من بغداد، فيصير وصفاً للرجل فارقاً بينه وبين من يكون من الموصل وغيره؟ نقول لا، لأن كل ما كان من الله فهو الحق، فليس هذا هو الحق من ربهم، بل قوله: {مّن رَّبّهِمُ} خبر بعد خبر، كأنه قال وهو الحق وهو من ربهم، أو إن كان وصفاً فارقاً فهو على معنى أنه الحق النازل من ربهم لأن الحق قد يكون مشاهداً، فإن كون الشمس مضيئة حق وهو ليس نازل من الرب، بل هو علم حاصل بطريق يسره الله تعالى لنا.
ثم قال تعالى: {كَفَّرَ عَنْهُمْ سيئاتهم وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ} أي سترها وفيه إشارة إلى بشارة ما كانت تحصل بقوله أعدمها ومحاها، لأن محو الشيء لا ينبئ عن إثبات أمر آخر مكانه، وأما الستر فينبئ عنه، وذلك لأن من يريد ستر ثوب بال أو وسخ لا يستره بمثله، وإنما يستره بثوب نفيس نظيف، ولا سيما الملك الجواد إذا ستر على عبد من عبيده ثوبه البالي أمر بإحضار ثوب من الجنس العالي لا يحصل إلا بالثمن الغالي، فيلبس هذا هو الستر بينه وبين المحبوبين، وكذلك المغفرة، فإن المغفرة والتكفير من باب واحد في المعنى، وهذا هو المذكور في قوله تعالى: {فَأُوْلَئِكَ يُبَدّلُ الله سَيّئَاتِهِمْ حسنات} [الفرقان: 70] وقوله: {وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ} إشارة إلى ما ذكرنا من أنه يبدلها حسنة، فإن قيل كيف تبدل السيئة حسنة؟ نقول معناه أنه يجزيه بعد سيئاته ما يجزى المحسن على إحسانه، فإن قال الإشكال باق وباد، وما زال بل زاد، فإن الله تعالى لو أثاب على السيئة كما يثيب عن الحسنة، لكان ذلك حثاً على السيئة، نقول ما قلنا إنه يثيب على السيئة وإنما قلنا إنه يثيب بعد السيئة بما يثيب على الحسنة، وذلك حيث يأتي المؤمن بسيئة، ثم يتنبه ويندم ويقف بين يدي ربه معترفاً بذنبه مستحقراً لنفسه، فيصير أقرب إلى الرحمة من الذي لم يذنب، ودخل على ربه مفتخراً في نفسه، فصار الذنب شرطاً للندم، والثواب ليس على السيئة، وإنما هو على الندم، وكأن الله تعالى قال عبدي أذنب ورجع إليّ، ففعله شيء لكن ظنه بي حسن حيث لم يجد ملجأ غيري فاتكل على فضلي، والظن عمل القلب، والفعل عمل البدن، واعتبار عمل القلب أولى، ألا ترى أن النائم والمغمى عليه لا يلتفت إلى عمل بدنه، والمفلوج الذي لا حركة له يعتبر قصد قلبه، ومثال الروح والبدن راكب دابة يركض فرسه بين يدي ملك يدفع عنه العدو بسيفه وسنانه، والفرس يلطخ ثوب الملك بركضه في استنانه، فهل يلتفت إلى فعل الدابة مع فعل الفارس، بل لو كان الراكب فارغاً الفرس يؤذي بالتلويث يخاطب الفارس به، فكذلك الروح راكب والبدن مركوب، فإن كانت الروح مشغولة بعبادة الله وذكره، ويصدر من البدن شيء لا يلتفت إليه، بل يستحسن منه ذلك ويزاد في تربية الفرس الراكض ويهجر الفرس الواقف، وإن كان غير مشغول فهو مؤاخذ بأفعال البدن.


{ذَلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا اتَّبَعُوا الْبَاطِلَ وَأَنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّبَعُوا الْحَقَّ مِنْ رَبِّهِمْ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ لِلنَّاسِ أَمْثَالَهُمْ (3)}
وفيه مسائل:
المسألة الأولى: في الباطل وجوه:
الأول: ما لا يجوز وجوده، وذلك لأنهم اتبعوا إلها غير الله، وإله غير الله محال الوجود، وهو الباطل وغاية الباطل، لأن الباطل هو المعدوم، يقال بطل كذا، أي عدم، والمعدوم الذي لا يجوز وجوده ولا يمكن أن يوجد، ولا يجوز أن يصير حقاً موجوداً، فهو في غاية البطلان، فعلى هذا فالحق هو الذي لا يمكن عدمه وهو الله تعالى، وذلك لأن الحق هو الموجود، يقال تحقق الأمر، أي وجد وثبت، والموجود الذي لا يجوز عدمه هو في غاية الثبوت الثاني: الباطل الشيطان بدليل قوله تعالى: {لأَمْلاَنَّ جَهَنَّمَ مِنكَ وَمِمَّن تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ} [ص: 85] فبيّن أن الشيطان متبوع وأتباعه هم الكفار والفجار، وعلى هذا فالحق هو الله، لأنه تعالى جعل في مقابلة حزب الشيطان حزب الله الثالث: الباطل، هو قول كبرائهم ودين آبائهم، كما قال تعالى عنهم: {إِنَّا وَجَدْنَا ءَابَاءنَا على أُمَّةٍ وَإِنَّا على آثارهم مهتدون} [الزحرف: 22] ومقتدون فعلى هذا الحق ما قاله النبي عليه السلام عن الله الرابع: الباطل كل ما سوى الله تعالى، لأن الباطل والهالك بمعنى واحد. و{كُلُّ شَيْء هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ} [القصص: 88] وعلى هذا فالحق هو الله تعالى أيضاً.
المسألة الثانية: لو قال قائل من ربهم لا يلائم إلا وجهاً واحداً من أربعة أوجه، وهو قولنا المراد من الحق هو ما أنزل الله وما قال النبي عليه السلام من الله، فأما على قولنا الحق هو الله فكيف يصح قوله: {اتبعوا الحق مِن رَّبّهِمْ} نقول على هذا {مِّن رَّبِّهِمُ} لا يكون متعلقاً بالحق، وإنما يكون تعلقه بقوله بقوله تعالى: {اتبعوا} أي اتبعوا أمر ربهم، أي من فضل الله أو هداية ربهم اتبعوا الحق، وهو الله سبحانه.
المسألة الثالثة: إذا كان الباطل هو المعدوم الذي لا يجوز وجوده، فكيف يمكن اتباعه؟ نقول لما كانوا يقولون إنما يفعلون للأصنام وهي آلهة وهي تؤجرهم بذلك كانوا متبعين في زعمهم، ولا متبع هناك.
المسألة الرابعة: قال في حق المؤمنين {اتبعوا الحق مِن رَّبّهِمْ} وقال في حق الكفار {اتبعوا الباطل} من آلهتهم أو الشيطان، نقول أما آلهتهم فلأنهم لا كلام لهم ولا عقل، وحيث ينطقهم الله ينكرون فعلهم، كما قال تعالى: {وَيَوْمَ القيامة يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ} [فاطر: 14] وقال تعالى: {وَكَانُواْ بِعِبَادَتِهِمْ كافرين} [الأحقاف: 6] والله تعالى رضي بفعلهم وثبتهم عليه، ويحتمل أن يقال قوله: {مّن رَّبّهِمُ} عائد إلى الأمرين جميعاً، أي من ربهم اتبع هؤلاء الباطل، وهؤلاء الحق، أي من حكم ربهم، ومن عند ربهم.
ثم قال تعالى: {كَذَلِكَ يَضْرِبُ الله لِلنَّاسِ أمثالهم} وفيه أيضاً مسائل:
المسألة الأولى: أي مثل ضربه الله تعالى حتى يقول: {كَذَلِكَ يَضْرِبُ الله لِلنَّاسِ أمثالهم}؟ نقول فيه وجهان:
أحدهما: إضلال أعمال الكفار وتكفير سيئات الأبرار الثاني: كون الكافر متبعاً للباطل، وكون المؤمن متبعاً للحق، ويحتمل وجهين آخرين أحدهما: على قولنا {مّن رَّبّهِمُ} أي من عند ربهم اتبع هؤلاء الباطل وهؤلاء الحق، نقول هذا مثل يضرب عليه جميع الأمثال، فإن الكل من عند الله الإضلال وغيره والاتباع وغيره وثانيهما: هو أن الله تعالى لما بيّن أن الكافر يضل الله عمله والمؤمن يكفر الله سيئاته، وكان بين الكفر والإيمان مباينة ظاهرة فإنهما ضدان، نبه على أن السبب كذا أي ليس الإضلال والتكفير بسبب المضادة والاختلاف بل بسبب اتباع الحق والباطل، وإذا علم السبب فالفعلان قد يتحدان صورة وحقيقة وأحدهما يورث إبطال الأعمال والآخر يورث تكفير السيئات بسبب أن أحدهما يكون فيه اتباع الحق والآخر اتباع الباطل، فإن من يؤمن ظاهراً وقلبه مملوء من الكفر، ومن يؤمن بقلبه وقلبه مملوء من الإيمان اتحد فعلاهما في الظاهر، وهما مختلفان بسبب اتباع الحق واتباع الباطل، لا بدع من ذلك فإن من يؤمن ظاهراً وهو يسر الكفر، ومن يكفر ظاهراً بالإكراه وقلبه مطمئن بالإيمان اختلف الفعلان في الظاهر، وإبطال الأعمال لمن أظهر الإيمان بسبب أن اتباع الباطل من جانبه فكأنه تعالى قال الكفر والإيمان مثلان يثبت فيهما حكمان وعلم سببه، وهو اتباع الحق والباطل، فكذلك اعلموا أن كل شيء اتبع فيه الحق كان مقبولاً مثاباً عليه، وكل أمر اتبع فيه الباطل كان مردوداً معاقباً عليه فصار هذا عاماً في الأمثال، على أنا نقول قوله: {كذلك} لا يستدعي أن يكون هناك مثل مضروب بل معناه أنه تعالى لما بيّن حال الكافر وإضلال أعماله وحال المؤمن وتكفير سيئاته وبيّن السبب فيهما، كان ذلك غاية الإيضاح فقال: {كذلك} أي مثل هذا البيان {يَضْرِبُ الله لِلنَّاسِ أمثالهم} ويبين لهم أحوالهم.
المسألة الثانية: الضمير في قوله: {أمثالهم} عائد إلى من؟ فيه وجهان:
أحدهما: إلى الناس كافة قال تعالى: {يَضْرِبُ الله لِلنَّاسِ أمثالهم} على أنفسهم وثانيهما: إلى الفريقين السابقين في الذكر معناه: يضرب الله للناس أمثال الفريقين السابقين.

1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8